كعادته، وفي هدوئه المعهود، نفض الأخ إيلدوفونس ميشال سركيس غبار ثوبه الأخويّ الشّاهد على رسالته الأرضيّة على امتداد عقود، ليلبس ثوب العبور من الموت إلى القيامة...
لم يترك لنا حتّى صورة رسميّة، نرفقها بكلمتنا الوجدانيّة في يوم رحيله العظيم، أمس الأحد. قد يكون فعل لإيمان عميق عنده، أنَّ عائلته ليست في حاجة إلى صورة تتأمّلها، فالآلاف المألَّفة من أبنائه في أصقاع الأرض كلّها، سيفتقدونه وبصلاتهم يذكرونه...
صحيحٌ أنّنا -كخرّيجي مدارس الإخوة الـ "لاساليّين"- لم نكن على احتكاك يوميّ مع الإخوة الأفاضل، وبينهم فقيدنا الغالي، غير أنَّ ما زرعه فينا هؤلاء لا تمحوه الأزمنة...
وكأنّ شيئًا لم يتغيّر... أمس كنّا نستلم منه "سجلّ العلامات" في معهد "المون لاسال"، واليوم وصلتنا عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ رسالة الرّحيل، حاملةً الفرح إلى السّماء، والأسى إلى سكّان الأرض، الّذين ما برحوا في حاجة إلى ذاك الرّجل - المثال الّذي لطالما جسّده الأخ إيلدوفونس، في زمنٍ ندرت فيه القامات العاليات، المحلّقات في رحابة فضاء القيم، وتحت أشعّة شمس الحقّ، ومن يعرف الحقّ يتحرَّر...
غدرنا خبر الرّحيل في يومٍ لم يخطر ببالنا، وفي ساعة لا يدركها إلاّ الآب السّماويّ، وإن كان الأخ إيلدوفونس يتحضّر لها لعقود... وصُعقنا لهول تلك الرّسالة من الإخوة الـ"لاساليّين" أبناء القديس يوحنّا المعمدان دي لاسال، إلى مدراس "الفرير" وفيها:
« Chers directeurs,
Nous avons appris le décès du Frère Ildefonse Sarkis de la Communauté des Frères Aînés à Mont-la-Salle au Liban, survenu ce dimanche 16 décembre 2018. Nous le confions à la miséricorde du Seigneur. Nous prierons pour toute la famille éprouvée par ce départ.
Que Dieu accorde à Frère Ildefonse le repos et la récompense promise à ceux qui l'ont servi dans la fidélité.
Qu'il repose en paix. Nous vous communiquerons dans peu les informations concernant la messe des funérailles».
لقد سار فقيدنا على منوال المؤسّس القدّيس يوحنّا دي لاسال، الّذي قرّر ذات يومٍ أن يضع مواهبه وعلمه في خدمة الأولاد "البائسين من أبناء الفقراء"، فتخلّى عن مكانته ككاهنٍ ومشرّع كَنَسِيّ، بل وعن ثروته، ليكوّن الجماعة التي تُدعى اليوم "أخوة المدارس المسيحيّة"، فكان الأخ إيلدوفونس بدوره الخادم الأمين لتلك الرّسالة السّامية المقدّسة...
وكالمؤسّس، كان الأخ إيلدوفونس رؤيويًّا... فكما كان القدّيس دي لاسال رائداً في اقتراحه مناهج لتكوين المعلّمين العلمانييّن، وابتكار "حصص الآحاد" للشّبّان العمّال، كما وكانت مدارسه من أوائل المؤسسات الّتي أخذت على عاتقها رعاية الجانحين، هكذا أحسن الأخ إيلدوفونس بدوره إدارة المدارس في أحلك ظروف الحرب، مقيمًا التّوازن الدّقيق بين تلك الفوضى العارمة وفورة الشّباب اللّبنانيّ المتخوّف من سوء المصير والمستقبل المجهول، والوجود المهدّد بالزّوال، والرّوح الـ "لاساليّة"، القائمة على الرّوح المسيحيّة.
وكما كان المؤسّس-القدّيس أوّل من وَضع "مراكز تكوين للمعلّمين"، و"مدارس تعليم للجانحين"، و"مدارس فنيّة"، و"مدارس ثانويّة للّغات الحديثة والفنون والعلوم"، هكذا أيضًا استثمر الأخ إيلدوفونس مواهب اللّه في التّربية، وزاد الوزنات، وهو يحملها اليوم بثقلها، ليقدّمها إلى سيّده، مظهرًا أنَّه الصّالح...
ويكفي الأخ إيلدوفونس فخرًا، أنّ انغماسنا في بحر المسؤوليّات، وتسارع العمر، والمرور الخاطف للسّنوات، وكلّ عوامل الزّمن مجتمعةً، لم تحجب صورته المغروسة أبدًا في كياننا...
هكذا بقي القدّيس دي لاسال إلى أنْ أُعلن شفيعاً لكلّ الّذين يعملون في حقل التّعليم، فيما تتربّع المدارس اللاساليّة اليوم، في أكثر من ثمانين دولة في العالم.
ولقد استوحيت شخصيًّا الكثير من القدّيس يوحنّا المعمدانيّ دي لاسال، في عملي على تأسيس جمعيّة "جائزة الأكاديميّة العربيّة"، وإرساء دعائمها، لتفعيل تعلّم اللّغة العربيّة في طريقة نشطة، ومن خلال التّعبير أيضًا بواسطة الموسيقى والرّسم... كما واستوحيت من سيرة الأخ الرّاحل، الباقي في قلوبنا على رجاء القيامة...
فيا حضرة الأخ الرّاحل إلى الحياة الأبديّة، غدًا الثّلاثاء، سنجتمع في "المون لا سال" الرّابعة بعد الظّهر للصّلاة من حولك، ولوداعك الأخير على أمل أنْ نعود ونلتقي، وسنُدلي بإيماننا وبالشّهادة مجدّدًا: المسيح قام... حقًّا قام!